فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر عود ضمير {سَمِعُواْ} لـ {الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} [المائدة: 82].
وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل: يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جاء من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل النصارى ليسوا كذلك، «والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع» أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في «الكشاف».
وأراد على مافي «الكشف» أن الدمع على الأول: هو الماء المخصوص وعلى الثاني: الحدث، وهو على الأول: مبدأ مادي وعلى الثاني: سببي.
وفي «الانتصاف» «أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى: فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية: محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعًا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازًا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلًا على التمييز، والثالثة: ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل»، وجوز الزمخشري أن تكون من هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقأ زيد من شحم فليفهم.
{مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} {مِنْ} الأولى: لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالًا من {الدمع} أي حال كونه ناشئًا من معرفة الحق.
وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم.
وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضًا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق {مِنْ} هذه ومن في {مِنَ الدمع} القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، و{مِنْ} الثانية: للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان «ما» بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالًا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول.
وقرئ {تَرَى أَعْيُنَهُمْ} على صيغة المبني للمبعول.
{يَقُولُونَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فأجيب يقولون: {رَبَّنَا ءامَنَّا} بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما.
وقال أبو البقاء: إنه حال من الضمير في {عَرَفُواْ}، وقال السمين: يجوز الأمران وكونه حالًا من الضمير المجرور في {أَعْيُنَهُمْ} لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47].
{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي اجعلنا عندك مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه وسلم وكتابك كما نقل الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ولَعلّ اللّهَ أعلَم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلاّ شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام، وهؤلاء يشبه حالهم حالَ من لم تبلغه الدعوة، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب.
ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن.
ولا شكّ أنّ النجاشي (أصْحَمة) منهم.
وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيء.
والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين.
والرسول هو محمّد كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن.
وما أنزل إليه هو القرآن.
والخطاب في قوله: {تَرى أعينهم} للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى.
فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب.
وقوله: {تفيض من الدمع} معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجًا عنه.
يقال: فاض الماء، إذا تجاوز ظرفه.
وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين.
وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي، فيقال: فاض الوادي، أي فاض ماؤُه، كما يقال: جَرَى الوادي، أي جرى ماؤه.
وفي الحديث: «ورَجُل ذكر الله خَاليًا فَفَاضَتْ عيناه» وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون: فاضت عينه دمعًا، بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة، أي قرينة النسبة المجازية.
فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون «من» الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز، لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة، قُلِب قولُ الناس المتعارف: فاضَ الدمع من عيننِ فلان، فقيل: {أعينَهم تفيض من الدمع}، فحرف «من» حرف ابتداء.
وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت «من» بيانية جارّة لاسم التمييز.
وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل: طبتَ النَّفْسَ.
و«من» في قوله: {مِمَّا عرفوا} تعليلية، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به.
ف {مِن} قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله: {تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا} [التوبة: 92]، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين.
و«من» في قوله: {من الحقّ} بيانية.
أي ممّا عرفوا، وهو الحقّ الخاصّ.
أو تبعيضية، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله.
وجملة {يقولون} حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا.
وهذا القول يجوز أن يكون علنًا، ويجوز أن يكون في خويّصتهم.
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم.
وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة.
وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادىءَ الأمر.
كما قال ورقة: يا ليتني أكون جَذعًا إذْ يُخرجك قومك.
أي تكذيبًا منهم.
أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى.
ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى «ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم».
وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى «ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأببِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضًا لأنّكم معي من الابتداء».
وإنّ لِكلمة {الحقّ} وكلمة {الشاهِدين} في هذه الآية موقعًا لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام. اهـ.

.قال التستري:

قوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [83] قال: هم القسيسون والرهبان، كان الناس يتمسحون بهم لعلمهم في الدين، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، فرقُّوا له، ففاضت أعينهم ولم يستكبروا، بعصمة الله إياهم عن الاستكبار، فدخلوا في دينه لما وضع الله تعالى من علمه فيهم، ثم قال: فساد الدين بثلاث: الملوك إذا أخذوا في السرف والشهوات، والعلماء إذا أفتوا بالرخص، والقراء إذا تعبدوا بغير علم وإن العلماء يحتاج إليهم الخلق في الدنيا والآخرة، وقد حكي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا، يزورون ربهم في كل جمعة فيقال لهم: تمنوا ما شئتم. فينطلقون إلى العلماء، فيقول لهم العلماء: تمنوا كذا تمنوا كذا، فيتمنون». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}.
هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قَرَعَتْ سَمْعَهُم دعوةُ الحقِّ ابتسمت البصيرة في قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}.
هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء. لقد قال العلم: إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية: إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة «الظاهرة» هذه إنما جاءت للاحتياط؛ لأن هناك أمورًا يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلًا.
لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا: إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئًا ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضًا أن هناك حاسة اسمها حاسة البين، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر.
إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضًا من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئًا أخذ منه مرة ثانية، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك.
إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقًا وحبًا؛ أي وجدانًا، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضًا يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من أن أحدًا لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك- إذن- مباح، والوجدان أمر مباح.